فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومُثِّلَ به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم». فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله الآية هذه، إلى آخر السورة.
قال الحافظ ابن كثير: هذا مرسل وفيه مبهم لم يسم، ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولًا عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه، وقد مُثِّلَ به. فقال: «رحمة الله عليك. إن كنتَ لما علمتُ، لوصولًا للرحم، فعولًا للخيرات، والله لولا حزنٌ من بعدك عليك، لسرَّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع أو كلمة نحوها أما والله! على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك». فنزلت هذه الآية. فكفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عن يمينه، وأمسك عن ذلك.
قال ابن كثير: وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحًا {أحد رواته} هو ابن بشير المريِّ، ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري: هو منكر الحديث، وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أُبَيِّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلًا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّنَ الأسود والأبيض إلا فلانًا وفلانًا- ناسًا سماهم- فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصبر ولا نعاقب».
أقول: بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول- في مقدمة التفسير- يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة؛ ولا إلى ما روي من هذه الآثار؛ إذ به يتضح عدم التنافي، والتقاء الآثار مع الآية فتذكَّره.
الثالث: قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ثم قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. الآية، وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. ثم قال: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. انتهى.
ثم أكد تعالى الأمر بالصبر، ليقوي الثبات والاحتمال، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [127- 128].
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} أي: بمعونته وتوفيقه: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على الكافرين، أي: على كفرهم وعدم هدايتهم: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي: في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد.
{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} تعليل لما قبله. أي: فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم؛ لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم. قال ابن كثير: هذهمُعَيَّة خاصة كقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وقوله لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} [الحديد: 4]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].
قال أبو السعود: تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث. كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولًا أوليًا، وإما هو صلى الله عليه وسلم ومن شايعه. عبَّر عنهم بذلك، مدحًا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه صلى الله عليه وسلم مستتبع لإقتداء الأمة به، كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما، عند التعزية بأبيه العباس:
اصبر نكن بك صابرين فإنما ** صبر الرعية عند صبر الرَّاسِ

وبعد هذا البيت:
خير من العباس أجرك بعده ** والله خير منك للعباس

قال ابن عباس: ما عزاني أحد من تعزيته.
وعن هَرِم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوص. قال: إنما الوصية من المال، فلا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}.
سبق أن ضرب الله في هذه السورة مثلين لتقريب حقيقة من حقائق العقيدة، وهو يضرب هنا مثلا لتصوير حال مكة، وقومها المشركين، الذين جحدوا نعمة الله عليهم. لينظروا المصير الذي يتهددهم من خلال المثل الذي يضربه لهم.
ومن ذكر النعمة في المثل، وهي نعمة الرزق الرغد مع الأمن والطمأنينة ينتقل السياق بهم إلى الطيبات التي يحرمونها عليهم اتباعا لأوهام الوثنية، وقد أحلها الله لهم، وحدد المحرمات وبينها وليست هذه منها، وذلك لون من الكفر بنعمة الله، وعدم القيام بشكرها. يتهددهم بالعذاب الأليم من أجله، وهو افتراء على الله لم ينزل به شريعة.
وبمناسبة ما حرم على المسلمين من الخبائث، يشير إلى ما حرم على اليهود من الطيبات. بسبب ظلمهم. جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم ولم يكن محرما على آبائهم في عهد إبراهيم الذي كان أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، فكانت حلالا له الطيبات ولبنيه من بعده، حتى حرم الله بعضها على اليهود في صورة عقوبة لهم خاصة، ومن تاب بعد جهالته فالله غفور رحيم.
ثم جاء دين محمد امتدادا واتباعا لدين إبراهيم، فعادت الطيبات حلالا كلها، وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد. فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ففريق كف عن الصيد وفريق نقض عهده فمسخه الله وانتكس عن مستوى الإنسانية الكريم.
وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن، وأن يلتزم قاعدة العدل في رد الاعتداء بمثله دون تجاوز.، والصبر والعفو خير، والعاقبة بعد ذلك للمتقين المحسنين لأن الله معهم، ينصرهم ويرعاهم ويهديهم طريق الخير والفلاح.
{وضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون}.
وهي حال أشبه شيء بحال مكة. جعل الله فيها البيت، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم، وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون. كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل.
ثم إذا رسول منهم، يعرفونه صادقا أمينا، ولا يعرف عنه ما يشين، يبعثه الله فيهم رحمة لهم وللعالمين، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد؛ فإذا هم يكذبونه، ويفترون عليه الافتراءات، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى، وهم ظالمون.
والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم، وعاقبة المثل أمامهم. مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله، وكذبت رسوله {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون.
ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد، وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس. لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون.
وفي ظل هذا المثل الذي تخايل فيه النعمة والرزق، كما يخايل فيه المنع والحرمان، يأمرهم بالأكل مما أحل لهم من الطيبات وشكر الله على نعمته إن كانوا يريدون أن يستقيموا على الإيمان الحق بالله، وأن يخلصوا له العبودية خالصة من الشرك، الذي يوحي إليهم بتحريم بعض الطيبات على أنفسهم باسم الآلهة المدعاة: {فكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون}.
ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر، وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حام: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به}، وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله. {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} فهذا الدين يسر لا عسر، ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر {على خلاف فقهي ذكرناه من قبل} غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور.
ذلك حد الحلال والحرام الذي شرعه الله في المطعومات، فلا تخالفوه اتباعًا لأوهام الوثنية، ولا تكذبوا فتدعوا تحريم ما أحله الله. فالتحريم والتحليل لا يكونان إلا بأمر من الله. فهما تشريع، والتشريع لله وحده لا لأحد من البشر، وما يدعي أحد لنفسه حق التشريع بدون أمر من الله إلا مفتر، والمفترون على الله لا يفلحون: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم}.
لا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه: هذا حلال وهذا حرام.
فهذا حلال وهذا حرام حين تقولونها بلا نص هي الكذب عينه، الذي تفترونه على الله، والذين يفترون على الله الكذب ليس لهم إلا المتاع القليل في الدنيا ومن ورائه العذاب الأليم، والخيبة والخسران..
ثم يجرؤ ناس بعد ذلك على التشريع بغير إذن من الله، وبغير نص في شريعته يقوم عليه ما يشرعونه من القوانين، وينتظرون أن يكون لهم فلاح في هذه الأرض أو عند الله!
فأما ما حرمه الله على اليهود في قوله من قبل في سورة الأنعام. {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} فقد كان عقوبة خاصة بهم لا تسري على المسلمين.
{وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}.
ولقد استحق اليهود تحريم هذه الطيبات عليهم بسبب تجاوزهم الحد ومعصيتهم لله. فكانوا ظالمين لأنفسهم لم يظلمهم الله. فمن تاب ممن عمل السوء بجهالة ولم يصر على المعصية، ولم يلج فيها حتى يوافيه الأجل؛ ثم أتبع التوبة القلبية بالعمل فإن غفران الله يسعه ورحمته تشمله، والنص عام يشمل التائبين العاملين من اليهود المذنبين وغيرهم إلى يوم الدين.
وبمناسبة ما حرم على اليهود خاصة، ومناسبة ادعاء مشركي قريش أنهم على ملة إبراهيم فيما يحرمونه على أنفسهم ويجعلونه للآلهة، يعرج السياق على إبراهيم عليه السلام يجلو حقيقة ديانته، ويربط بينها وبين الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويبين ما اختص به اليهود من المحظورات التي لم تكن على عهد إبراهيم.
{إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
والقرآن الكريم يرسم إبراهيم عليه السلام نموذجًا للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله، ويقول عنه هنا: إنه كان أمة، واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة، ويحتمل أنه كان إمامًا يقتدى به في الخير، وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك، وهما قريبان فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد.
{قانتًا لله} طائعًا خاشعًا عابدًا {حنيفًا} متجها إلى الحق مائلًا إليه {ولم يك من المشركين} فلا يتعلق به ولا يتمسح فيه المشركون! {شاكرًا لأنعمه} بالقول والعمل. لا كهؤلاء المشركين الذين يجحدون نعمة الله قولًا، ويكفرونها عملًا، ويشركون في رزقه لهم ما يدعون من الشركاء، ويحرمون نعمة الله عليهم اتباعًا للأوهام والأهواء. {اجتباه} اختاره {وهداه إلى صراط مستقيم} هو صراط التوحيد الخالص القويم.
ذلك شأن إبراهيم الذي يتعلق به اليهود ويتمسح به المشركون. {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} فكان ذلك وصل ما انقطع من عقيدة التوحيد، ويؤكدها النص من جديد على أن إبراهيم {وما كان من المشركين} فالصلة الحقيقية هي صلة الدين الجديد. فأما تحريم السبت فهو خاص باليهود الذين اختلفوا فيه، وليس من ديانة إبراهيم، وليس كذلك من دين محمد السائر على نهج إبراهيم: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} وأمرهم موكول إلى الله {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
ذلك بيان المشتبهات في العلاقة بين عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم من قبل، وكملت في الدين الأخير، والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود، وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه. فليأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن. فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا. إلا أن يعفو ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل؛ مطمئنًا إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين. فلا يحزن على من لا يهتدون، ولا يضيق صدره بمكرهم به وبالمؤمنين.
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.